بعد الهدف الأول الذي سجله جادون سانشو لبوروسيا دورتموند، منذ عودته إلى النادي الألماني، قال مدربه إيدن ترزيتش: "ندرك أنه لم يبلغ 100% بعد (من مستواه)، لكننا سنصل إلى هناك".
ونظراً إلى الأحداث التي شهدتها الأشهر الـ18 الماضية، تصعب معرفة ما إذا كانت تعليقات ترزيتش تشير إلى اللياقة البدنية أم الذهنية لسانشو، إذ أن للصدامات التي خاضها خارج الملعب في مانشستر يونايتد تأثيراً ملموساً في وقت لعبه على الملعب، كما أفاد موقع "ذا أتلتيك".
ومع التقدّم الحالي في التكنولوجيا وعلوم الرياضة والتغذية، باتت هناك قدرات جديدة على ضبط الأداء البدني في كرة القدم ومراقبته عن كثب، لم تكن موجودة سابقاً، إذ أن البيانات باتت تُعتبر جزءاً أساسياً في تقييم أي لاعب.
الأداء المعرفي للاعب
وصحيح أن المتطلّبات الفنية أصبحت تضاهي المتطلّبات البدنية المتسارعة في كرة القدم الحديثة، ولكن هل يتم إيلاء الاهتمام ذاته للأداء النفسي؟
المحادثات بشأن الصحة النفسية في كرة القدم تتزايد بشكل كبير، لكن مسألة الدعم النفسي في الأندية ليست ظاهرة جديدة.
وتوظف أندية كثيرة في الدوري الإنجليزي الممتاز علماء نفس، في إطار طاقم الدعم الخاص بها، مع إلزام الفرق بوجود طبيب نفسي بدوام كامل، كجزء من "خطة أداء لاعبي النخبة".
ولطالما قدّم اتحاد لاعبي كرة القدم المحترفين ورش عمل في مجال الصحة الذهنية، إضافة إلى تأمين رعاية مستمرة، بما في ذلك خط مساعدة يمكن للاعبين الاتصال به على مدار الساعة طيلة أيام الأسبوع.
وبعيداً عن الدعم النفسي، فإن أهمية الأداء المعرفي للاعب على الملعب باتت تحظى بمزيد من الاهتمام. وكما أن ثمة ارتفاعاً في عدد المدربين المتخصّصين على المستوى الفني والتكتيكي، بما في ذلك مدربو الكرات الثابتة والمهاجمين، بات الأندية تسعى أيضاً بشكل متزايد إلى البحث عن خبراء في هذا المجال.
وبعد كأس العالم 2022، عيّن إريك تن هاغ مدرب مانشستر يونايتد رينييه كورز كـ"مدرب حياة"، للمساعدة في تعزيز الروح الفردية والجماعية خلال النصف الثاني من الموسم.
واستعان نيوكاسل يونايتد باستشاري نفسي في مطلع الموسم، لمساعدة اللاعبين على التعامل مع التوقعات المتزايدة في دوري أبطال أوروبا، مع الحفاظ على مستوى عالٍ من الأداء على المستوى المحلي.
أهمية الرسائل البسيطة
ويقول ستيف ساليس، وهو مدرب ذهني عمِل مع منتخب إنجلترا تحت 15 عاماً، وناديَي ويمبلدون وكارديف سيتي، كما أنه مرشد للاعبين في الدوري الإنجليزي الممتاز: "لدينا جميعاً أيام لا نستطيع فيها أن نرهق أنفسنا بالذهاب إلى العمل، وذلك لأننا بشر. قد يستيقظ لاعب محترف السبت ويشعر بأن (تقييمه يبلغ) 6 من أصل 10، لكن المشجعين يتوقعون منه أن يكون 10 على 10، على المستويات الفنية والتكتيكية والبدنية والنفسية في كلّ أسبوع".
وتابع: "اتصل بي لاعب في الدوري الإنجليزي الممتاز، وهو لاعب في منتخب إنجلترا تحت 21 عاماً، بشأن مشكلة تتعلّق بالأداء. وهو شخص هادئ ومنطوٍ جداً، وأداؤه جيد جداً، لكنه يحتاج إلى ما يميّزه. فقد يفترض، باعتباره لاعباً دولياً، أن لديه هذه الميزة بالفعل، لكن اللاعبين يعكسون المزيج الموجود في المجتمع، إذ هناك الأشخاص الصاخبين والهادئين أو المنفتحين والانطوائيين. ولذلك كنا نعمل على جعل شخصيته أكثر حزماً، ويبدأ ذلك في التدريب من خلال المحادثات وكيفية التعامل مع زملائه في الفريق".
ساليس عمِل مع جود بيلينغهام، وإيبيريشي إزي وجو غوميز خلال بداية مسيرتهم، وكان لافتاً أن الرسائل البسيطة هي غالباً ما تكون الأكثر فعالية في تحسين أداء اللاعبين.
ويقول ساليس: "في حال لم يحظَ اللاعبون أو المدربون بخبرة تعليمية جيدة، فقد تكون مستويات المعرفة لديهم منخفضة... المزيد من الكلمات تمنحك مزيداً من الخيارات، وقد تكون هناك مناسبات لا يملك فيها اللاعبون أو المدربون ما يكفي من الكلمات للتعبير عن أنفسهم، وهذا يمكن أن يؤدي إلى مشكلة، ولذلك قد تؤدي المعرفة دوراً حاسماً بالنسبة إلى الأداء على نطاق أوسع".
"لن تسير وحدك أبداً"
أما دان أبراهامز، وهو عالم نفس رياضي ويعمل مع أندية أوروبية كبرى كثيرة، فقال: "على المدربين باستمرار اتخاذ قرارات واستخدام حُكمهم بشأن المكوّنات المختلفة للأداء الفني والتكتيكي والبدني والذهني للاعب. فالأمر يتعلّق باتباع نهج بيولوجي نفسي اجتماعي، أي الجسد والعقل والعالم من حول اللاعب".
وقد يتذكّر مشجعو أرسنال محاولة المدرب ميكيل أرتيتا لزيادة تركيز لاعبيه إلى أقصى حدّ، من خلال بثّ أغنية "لن تسير وحدك أبداً" خلال تدريباتهم قبيل مواجهة ليفربول على ملعب "أنفيلد".
وبالنسبة إلى مارك بودين، وهو مدرب الأداء الذهني للاعبين كثيرين في الدوري الإنجليزي الممتاز، فإن التدريب على هذا الأداء المعرفي في ظلّ مواقف واقعية تشبه المباريات، هو أمر بالغ الأهمية.
ويقول: "الأمر لا يتعلّق بفهم شيء ما فحسب، بل بالتكيّف معه إذ بدأ اللاعبون يدركون أن كلّ شيء يبدأ ويتوقف عند الدماغ، فإذا سقط، سقط معه كلّ شيء آخر".
"مرونة الدماغ"
صحيح أن المهارات البدنية والفنية للاعبي الدوري الإنجليزي الممتاز هي أمور لا جدال فيها، بما في ذلك اللمسة الأولى والقدرة على التمرير واللياقة البدنية. ولكن هل حقاً أن مستوى اللاعبين نادراً ما يتراجع، في ظلّ هذا المستوى الكبير من الموهبة؟
ويوضح بودين كيف يمكن للاستجابات العاطفية في الدماغ أن تتدخل في أحيان كثيرة، في ظلّ الضغوط الشديدة التي تفرضها كرة القدم الاحترافية، ويتابع: "عندما يُفرِط اللاعبون في التفكير أو يشكّكون بأنفسهم، تحدث استجابة كيماوية ملموسة في الدماغ والجسم، وتنطلق هذه الإشارات الكهربائية في الدماغ ويكون لها تأثير جسدي".
ولكن من خلال التدريب على الأداء الذهني، يمكن للاعبين تكييف أدمغتهم وسلوكهم للحفاظ على أدائهم الأمثل وتوجيه استجاباتهم العاطفية بشكل إيجابي. لكن التكرار يُعدّ أمراً حاسماً.
ويزيد بودين: "الدماغ مرن، ولذلك إذا فعلنا أمراً باستمرار، يمكننا بناء مسارات عصبية جديدة وتغيير الدماغ. فاللوزة الدماغية هي مركز المعالجة العاطفية في الدماغ، ولكن إذا قمنا بتكييفها بشكل استباقي بالطريقة الصحيحة أثناء التوتر، فيمكننا تقليص حجم وقوة استجابة هذا الجزء من الدماغ، كما يمكننا في الوقت ذاته زيادة حجم قشرة الفص الجبهي، وهي جزء رئيسي من الدماغ يشارك في عمليات الإدراك عالية المستوى مثل صنع القرار".
التفكير النقدي
في الوقت الحالي الذي قد تبدو فيه المتطلّبات التكتيكية المفروضة على اللاعب معقدة إلى حد ما، فإن تأمين مزيد من الاستقلالية للأفراد على الملعب هو موضوع أساسي يظهر لدى السعي إلى تحقيق أقصى مقدار من الأداء الذهني.
ويقول ساليس: "عندما أعمل مع اللاعبين، أقول لهم: هل يمكننا أن نكون أكثر ذكاءً من المنافسين؟... فالمزيد من التفكير النقدي يوجِد مزيداً من الأفكار، والتي يمكن أن تشكّل الفارق بين الفوز بالمباراة أو عدم الفوز بها".
وباتت أهمية الأداء النفسي تكتسب مزيداً من الاهتمام في كرة القدم الاحترافية، لكن الأمر لا يزال في مهده في مشهد كرة القدم الأوسع بالعالم.
ويقول بودين: "في اللعبة الحديثة، سيكون لديك مدرب للركلات الثابتة، ومدرب للمدافعين، وآخر للمهاجمين، وكلّ تلك الأدوار المتخصّصة المختلفة للجوانب البدنية المختلفة. ولكن لا يزال أمام هذا الجانب الذهني طريق طويل ليقطعه".