
تشهد كأس العالم لكرة القدم أحياناً مفاجآت ضخمة، لكن ما حدث في نهائي مونديال سويسرا 1954 قد يكون الأكثر وقعاً، إذ مسّ ما يعتبره بعضهم أفضل منتخب في تاريخ اللعبة.
في تلك المباراة، خسرت المجر أمام ألمانيا الغربية 2-3، فأحرزت الأخيرة أول لقب لها في المسابقة، تزامن مع عودتها إلى الساحة الدولية بعد تداعيات الحرب العالمية الثانية.
هزيمة المجر أنهت سلسلة من 32 مباراة بلا خسارة، وحرمتها من لقب كان سيتوّج مسيرة مظفّرة بدأت في مطلع ذلك العقد، وأحدثت تحوّلاً عميقاً في كرة القدم.
بدأت تلك المسيرة في عام 1949، بعدما تولّى غوستاف شيبيش تدريب المنتخب، لكنه مُني بهزيمة في أولى مبارياته، أمام تشيكوسلوفاكيا في براغ من العام ذاته. دفع ذلك المنتخب إلى التخلّي عن الأسلوب البريطاني في اللعب، واعتماد كرة حديثة.
وكتب نجم المنتخب آنذاك فيرينك بوشكاش، في سيرته الذاتية: "بعد تلك المباراة، لم يعُد ممكناً تجنّب المشكلة. كان على المجر أن تطوّر طريقة لعب جديدة تماماً، إذا أردنا تحقيق أي تقدّم في كرة القدم الدولية". وفعلت المجر ذلك، إذ كتب بوشكاش: "اللاعبون يبدّلون مراكزهم باستمرار وفقاً لخطة مُعدّة مسبقاً. النتيجة كانت أن خصومنا لم يتمكّنوا من تخمين خططنا وواجهوا صعوبات لم يكونوا سيواجهونها لو اتبعنا طريقة اللعب الإنجليزية المعتادة".
كان ذلك يعني أن تلعب المجر من دون رأس حربة تقليدي، وشغل ناندور هيديكوتي مركز مهاجم متأخر، مُربكاً المدافعين. وحقق المنتخب نتائج استثنائية، مكّنته من إحراز ذهبية أولمبياد هلسنكي عام 1952. وبات أسلوب اللعب، المعروف باسم W-M ويضمّ 5 مهاجمين، أقرب إلى طريقة 4-2-4، واعتبر هيديكوتي أنه يستهدف إحداث "أقصى مقدار من الالتباس" لدى الفرق المنافسة.
"مباراة القرن"
في عام 1953، خاض المنتخب المجري ما اعتُبر آنذاك "مباراة القرن" على ملعب "ويمبلي" في لندن ضد نظيره الإنجليزي، الذي لم يكن قد خسر على أرضه إطلاقاً أمام فريق من خارج الجزر البريطانية.
فاز المجريون 6-3، وأمتعوا الجمهور بأسلوب ساحر، وصفه المدافع الإنجليزي سيد أوين بـ"كرة القدم من كوكب آخر"، فيما قال المهاجم توم فيني: "كانوا أعظم منتخب ألعب ضده، (إنه) فريق رائع (ينتهج) تكتيكات لم نشهدها سابقاً".
أما النجم السابق السير ستانلي ماثيوز فرأى كرة "خيالية"، وتابع: "قبل وقت طويل من صافرة النهاية، دُفِن مجد ماضينا الكروي". واعتبر أن ملعب "ويمبلي" شهد "صنع تاريخ كرة القدم".
صحيفة "ذي تايمز" البريطانية بشّرت بـ"مفهوم جديد لكرة القدم"، مضيفة: "بالكاد كان أي شخص مستعداً لقبول أن إنجلترا لم تعُد تحكم العالم" كروياً، بوصفها مبتكِرة اللعبة.
في مباراة الردّ قبل مونديال 1954، جدّدت المجر فوزها على إنجلترا، بنتيجة 7-1 في بودابست، وهذه أسوأ هزيمة في تاريخ المنتخب الإنجليزي.
"المثالية الشيوعية"
استخدمت الحكومة المجرية المنتخب من أجل "الترويج للمثالية الشيوعية"، التي جسّدتها الروح الجماعية وأسلوب اللعب. وشكّل اللاعبون جزءاً من "آلة دعائية" للنظام، لكنهم لم يتلقّوا رواتب، بل مُنحوا ألقاباً عسكرية ومناصب وزارية، أكسبتهم 5 أضعاف ما يجنيه العامل العادي.
ووصف شيبيش أسلوب لعب المنتخب بـ"كرة القدم الاشتراكية"، فيما أشار بوشكاش إلى أن جميع اللاعبين كانوا يهاجمون ويدافعون في الوقت ذاته.
وقال حارس مرمى المنتخب غيولا غروسيتش: "كان شيبيش ملتزماً جداً بالأيديولوجيا الاشتراكية. وجعل من كل مباراة أو بطولة مهمة مسألة سياسية، وتحدّث غالباً عن الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية في ملعب كرة القدم، تماماً كما يحدث في أي مكان آخر".
الهزيمة أمام ألمانيا الغربية
خاضت المجر مونديال 1954 بوصفها أبرز المرشحين للقب، وسجّلت 17 هدفاً في أول مباراتين، بفوزها 9-0 على كوريا الجنوبية و8-3 على ألمانيا الغربية. ثم هزمت البرازيل في ربع النهائي 4-2، والأوروغواي في نصف النهائي بالنتيجة ذاتها.
وبعد تقدّم المجر بنتيجة 2-0 في الدقائق الثماني الأولى من النهائي أمام ألمانيا الغربية، خسر "المنتخب الذهبي" في النهاية 2-3، في نتيجة مُذهلة سُمّيت "معجزة برن" وأسالت حبراً كثيراً وأثارت غضباً وشكوكاً في المجر، إذ اتهم بعضهم اللاعبين بتلقّي سيارات فاخرة ألمانية الصنع في مقابل الخسارة.

ثمة أسباب محتملة للهزيمة المفاجئة، بما في ذلك أن المجر خرجت منهكة من معركتين كرويتين ضد البرازيل والأوروغواي، فيما لعب بوشكاش النهائي وهو مصاب، كما ألغى له الحكم هدفاً صحيحاً بداعي التسلّل، فيما صدّت العارضة كرتين لهيديكوتي وساندور كوتشيش، في ظلّ تألق الحارس الألماني توني توريك.
كذلك كان مدرّب ألمانيا الغربية سيب هربرغر حذِقاً، إذ لم يُشرك لاعبين أساسيين كثيرين في المباراة الأولى بين المنتخبين، استعداداً لمفاجأة المجريين لاحقاً.
"الكرة الشاملة"
في عام 1956، انتهى العصر الذهبي للمنتخب المجري، بعد تدخل الاتحاد السوفياتي عسكرياً في المجر لقمع ثورة مضادة للشيوعيين، وتفرَّق لاعبوه في نوادٍ أجنبية، فلعب بوشكاش مع ريال مدريد الإسباني وساندور كوتشيش وزولتان تسيبور مع برشلونة.
اعتبر بوشكاش أن هذا المنتخب كان "النموذج الأوّلي للكرة الشاملة"، قبل أن يمارسها أياكس أمستردام الهولندي في سبعينات القرن العشرين.
بين يونيو 1950 ونوفمبر 1955، سجّلت المجر 220 هدفاً في 51 مباراة، وحققت رقماً قياسياً من 42 انتصاراً، في مقابل خسارة واحدة، أمام ألمانيا الغربية في نهائي مونديال 1954.
في عام 2016، اختارت "هيئة الإذاعة البريطانية" (بي بي سي) فريق المجر في الخمسينات، كـأفضل منتخب في التاريخ.